خرافات حقيقية

Written in Arabic by Haytham el-Wardany

Add

٢٠١٩ – ديساو

يُحكى أن ولاعة سجائر تكلمت ذات يوم. قالت: “أنا النار، وأنتم القتلة”، ولم يصدقها أحد. أول مرة تنطق فيها كانت عندما أمسك بها رجل الشرطة وأخذ يتفحصها. ولاعة حمراء عادية، يملأها الغاز إلى نحو منتصفها. وقبل أن يلقي بها في كيس أحراز بلاستيكي قالت جملتها تلك، فتسمر في مكانه قليلا، وانتظر أن تكرر ما قالته لكنها لم تفعل، فوضعها في الكيس وأغلقه على الفور. ظل الكيس قابعا في دولاب قسم الشرطة، ولا يخرجه الشرطي إلا أيام جلسات المحاكمة، والتي امتدت لسنوات عديدة. في كل جلسة كانت القاضية تطلب معاينة الأحراز، فيتقدم الشرطي بالكيس البلاستيكي ويفتحه ويخرج الولاعة واضعا إياها على طاولة القاضية. تسأل القاضية السؤال التقليدي عن ملابسات العثور عليها، فيكرر الشرطي الإجابة التقليدية أنه عندما فتح الزنزانة لم يعثر على اللاجئ المحتجز. كل ما عثر عليه كان ولاعته. تسأله القاضية عن تفسير دخول الولاعة بعد تجريده منها الليلة السابقة، فيقول لها الشرطي أنه لا يعرف. تقلّب في الأوراق التي أمامها قليلا، ثم تقول: “ربما يكون اللاجئ الذي قبضتَ عليه في ليلة السابع من يناير وأودَعته الزنزانة قد تحوّل إلى ولاعة”، فيبتسم الشرطي ويقول: “لا يوجد بشر يتحولون إلى ولاعات يا سيدتي القاضية”. فتسأله أين ذهب إذن؟ فيهز كتفه بلامبالاة ويقول لعله قد تبخر في الهواء. ثم تتطلع القاضية إلى الولاعة الحمراء الملقاة على طاولتها، فتقول الولاعة: “أنا النار، وأنتم القتلة”. تنظر إلى الشرطي مستغربة، وتسأله: “هل قالت الولاعة شيئا للتو؟” فيرد الشرطي: “ولاعات السجائر لا تتحدث يا سيدتي”، فتهز القاضية رأسها قائلة: “نعم، بالطبع”. وتطلب من الشرطي أن يحمل أحرازه ويذهب.

في كل جلسة يحدث المشهد نفسه. وفي يوم الجلسة الأخيرة سألت القاضية رئيس الشرطة عن تفسير لتبخر اللاجئ في الهواء، فقال إنه لا يملك تفسيرا ولكنه يصدق رجاله. سألته القاضية عن سبب اندلاع جرس الحريق في ليلة القبض على اللاجئ، وعن سبب حذف الواقعة من محضر القضية فيما بعد. فأجاب رئيس الشرطة إن سبب اندلاع جرس الحريق هو اشتعال الشجرة التي في فناء قسم الشرطة في الليلة نفسها، وأشار بيده إلى النافذة، فنظرت القاضية نحو ساق الشجرة المتّقد، الذي كانت تستطيع رؤيته من مكانها. وتابع قائلا: “تعرفين قصة الشجرة بلا شك. لابد أن مستشعرات الجرس التقطت دخان احتراقها بسبب قربها من المكان. وعندما عرفنا أن سبب الحريق لا يمت بصلة للقضية حذفناه من محضرها”. ثم طلبت القاضية رؤية الأحراز للمرة الألف. فتقدم الشرطي وفتح الكيس البلاستيكي وأخرج الولاعة. في هذه المرة ارتدت القاضية قفازا بلاستيكيا ووضعت الولاعة في راحتها وأخذت تتطلع إليها بتمعن. فخرج صوت الولاعة واهنا للغاية: “أنا النار، وأنتم القتلة”. نظرت القاضية كالعادة للشرطي، فنظر لها مُطَمئِنا. سألته للمرة الألف: “كيف دخلت الولاعة إلى الزنزانة بعد أن جردته منها الليلة السابقة؟” فأجاب الشرطي للمرة الألف: “لا أدري”. أطالت القاضية النظر إلى الولاعة منتظرة أن يصدر عنها صوت آخر، لكن وجهها المعدني بقي مائلا، وجسمها الأحمر منحنيا على نفسه. وظلت صامتة في راحة يدها. تطلعت القاضية إلى رئيس الشرطة، وتطلعت من النافذة إلى الشجرة المتقدة، وأعادت النظر إلى الولاعة، ثم ضربت بمطرقتها الخشبية وأصدرت حكمها: قضت المحكمة باعتبار اللاجئ مختفيا حتى يتم العثور عليه، وإغلاق ملف القضية نهائيا.

في اليوم نفسه الذي أصدرت فيه القاضية حكمها النهائي أتى العمال إلى فناء قسم الشرطة لكي يجتثوا الشجرة.كان هذا هو الحل النهائي للمشكلة. فمنذ أن أمسكت بها النار قبل أربعة عشر عاما لم يستطع أحد إطفاءها. إذ كلما جاءت قوات الإطفاء وصوبوا نحوها خراطيمهم الضخمة لا يكاد ينطفأ لهب النار حتى يعود ليتجدد في اليوم التالي. ومثّل إمساك النار بأقدم شجرة في البلاد لغزا كبيرا، فكُلّف فريق علمي بكشف سر هذه الظاهرة الغريبة. وخرج الفريق بعدة فرضيات منها أن التربة الغنية بالكربون قد تجعل من الشجرة قابلة للاشتعال. لكن اللهب ظل مشتعلا حتى بعد أن غيروا تركيبة التربة. ثم اقترح الفريق نقل الشجرة إلى مكان آخر مع تربتها، لكن مجلس المدينة رفض لقيمتها التاريخية، إذ أن الشجرة زرعت بعد نهاية حرب الثلاثين عاما. ومضت الشهور تلو الشهور وخيط رفيع من الدخان يمتد كل ليلة من الشجرة المشتعلة ويتمدد فوق أسطح بيوت المدينة. إلى أن توصل الفريق البحثي لحل وسط، وهو قص أغصان الشجرة التي يمسك بها اللهب، مؤكدين على أنها ستنبت من جديد، فوافق مجلس المدينة. لكن في اليوم التالي التف الجميع حول الشجرة المُقلمة الأغصان ليروا لدهشتهم قلب الساق متقدا، يلوح احمراره المخيف عبر اللحاء المتفحم.

في يوم اجتثاث الشجرة وقف ولد وأمه مع آخرين يتفرجون على ما يجري في فناء قسم الشرطة. سأل الولد أمه عما يحدث، فقالت وعيناها جاحظتين: “إنهم يجتثون الشجرة يا بني، هل تعلم ماذا يعني ذلك؟” فهز الولد رأسه نافيا، فأردفت الأم: “إنها أقدم شجرة في البلاد، عمرها يقترب من أربعمائة عام”. وقف السكان واجمين وهم يشاهدون الجرافة الكبيرة التي جاءت بعد أن حسم مجلس المدينة رأيه، ويشاهدون العمال وهم يحفرون حول الشجرة. ثم اقتربت الجرافة البرتقالية اللون وأدخلت أسنانها المدببة في الحفرة حول الشجرة، وأخذت تمزق الجذور واحدا وراء الآخر. وفاحت رائحة جوف الأرض في المكان. بعدها تقدمت الجرافة ونطحت الساق فلم تهتز الشجرة. فعادت الجرافة إلى الخلف، ثم تقدمت بكل قوة ونطحت الساق فاهتز قليلا. لم يحدث شيء لعدة لحظات، ثم هوت الشجرة محدثة جلبة عارمة، وسط صراخ المتفرجين. وما أن انهارت حتى انكب عليها العمال، وأعملوا مناشيرهم في خشب الساق بعد أن بردوه، ثم حملت الجرافة جثة الشجرة المتفحمة، وسارت بعيدا. وأخيرا قام العمال بإهالة التراب مرة أخرى مكان الجذور، وفرشوا بكرة من الحشيش الجاهز فوقها.

خيم على المدينة في هذه الليلة ظل ثقيل. ولم يحصل أحد على نوم هادئ. في الصباح استيقظ السكان على جلبة وهرج ومرج. كان البعض يصرخ، والبعض يجري في الطرقات. ساروا وهم مرعوبين حتى وصلوا إلى فناء مركز الشرطة وتسمروا أمامه. لقد شقّت باطن الأرض صخرةٌ صغيرة، في مكان الشجرة المشتعلة نفسه. كان حجم الصخرة لا يتجاوز حجم يقطينة متوسطة. ومنها انبثقت جداول رفيعة من حمم اللافا. تدفقت بعض جداول اللافا إلى سياج فناء الشرطة، وتجمع بعضها الآخر حول الصخرة مشكلا بحيرة صغيرة من اللافا السائلة المتوهجة. ولولا لون اللافا المميز، والحرارة المنبعثة منها، لما تأكد الواقفون من أنهم أمام بركان متناهي الصغر، ولظنوا أنهم أمام عمل فني.

٧٥٩ -‬ البصرة

“ذات يوم كان الحمار ينوء بحمله عندما التقى الجرذ، فقال له: “أراك قد هزلت يا صديقي كثيرا”. فقال له الحمار: “الحمولة ثقيلة اليوم وتكاد تقصم ظهري”. فتسلق ظهره من فوره، وقرض الرباط الذي يطوي الحطب، فانفلتت الحمولة على الأرض، وارتاح الحمار من ثقلها. فقال الجرذ: “لماذا لا تسمع نصيحتي يا صديقي لعلك تخفف عن نفسك بعض الشيء وتعود إليك صحتك؟” فقال الحمار: “إني أخاف أن أُضيّع الطريق”. فقال الجرذ: “وأين موضع الخوف؟” فقال الحمار: “في القلب”. فقال الجرذ: “ارمِ قلبك إذن وراءك حتى تتوقف عن الخوف”. فاستغرب الحمار وقال: “كيف ارمي قلبي وقد سبق وحذرتني من موت القلب؟” فقال الجرذ: “هذا القلب الذي أنصحك برميه يا صديقي ما هو إلا قلبك الميت، اطرحه عنك لكي تعثر على آخر تدب فيه الحياة”. فثار الحمار: “بماذا تهرف يا صديقي؟ أنا لا أملك سوى قلب واحد، ذلك الذي في صدري. أنا ليست لي أسنانك ولا ذكاءك، ولا صغر حجمك، وإذا لم أعمل بجد لكي أحصل على الطعام سوف أموت جوعا”. فقال الجرذ: “عندما تتشجع وتلقي بقلبك ستعثر عليه. وإذا لم تفقده أبدا فلن يمكنك العثور عليه أبدا”. وفجأة خرج عليهم الحطاب من خلف أحد الأشجار، وكان الجرذ صغيرا فلم يلمحه، وأخذ يصرخ: “ماذا تفعل هنا يا حمار السوء وقد أهدرت الحطب كله؟” ثم انهال عليه بالضرب المبرح…”.

قاطع الحاكمُ الحكيمَ بيده، وقال له: سألتك عن مَثَلِ الرجل الذي يطلب حاجته حتى إذا ظفر بها أضاعها، فرويت لي ما حدث بين القرد والغيلم، وسألتك عن مَثَلِ الرجل الذي يخاف الحقيقة ويظن أنه بذلك يتّبعها، وها أنت تروي لي الآن ما وقع بين الجرذ والحمار، فما مقصدك؟ فأجابه الحكيم: إن الحقيقة يا مولاي تجري على ألسنة الحيوانات والطيور. فتعجب الحاكم وسأله: وكيف ذلك وهي عجماوات لا تنطق ولا تعقل؟ فأجابه الحكيم: فاعلم أعزك الله أن الشيء لا يُعرَف بنفسه، وإنما يُعرَف بمثله. والمثل يشبه الشيء لكنه ليس هو نفسه. وفي اختلافه عنه وشبهه به معا تُعرف الحقيقة. واعلم رحمك الله أن الحقيقة لا تأتي سوى بغتة، من حيث لا تحتسب. تأتيك من أضعف الخلق وأقلهم شأنا. تخرج باحثا عنها، لكن تأتيك هي ولا تعثر عليها أنت. فإنّي بك تستمع إلى ما أرويه إليك وأنت خفيف القلب، تحمله محمل الفكاهة، حتى تلحظ فجأة وجه الشبه بين ما ترغب في معرفته وما يدور في القصة، فتنتبه إلى ما غفلت عنه، إذ لم يخطر لك أن يأتيك من العجماوات. واعلم أكرمك الله أن من لا يعقِل لا ينطق عن الهوى، وإنما ينطق إذا طفح الكيل، فإذا نطق فعلى من يعقل أن يسكت ويستمع إلى ما لم يسمعه من قبل، لعله يهتدي.

كان الليل قد تقدم، والديوان قد هدأ. شرد الحاكم ثم قال: ما ظني إلا أنك تخشى أن تقول لي الحقيقة كما هي، فتضعها في قصة مليحة كي استنبطها بنفسي فلا أنسبها إليك إذا أزعجتني. فأجاب الحكيم: إن خشية الملوك من رجاحة العقول، وما أنا لك سوى شيخ أعجمي مهما طال بي الزمان، وما مكاني من مكانتك العالية وسطوتك الواسعة إلا كمكان العجماوات من الإنسان، ومثلي كمثلهم لا حيلة لنا سوى الحيلة. لكني لا أحتال عليك لأخدعك، وإنما لكي أجعلك تعمل بالحقيقة، لا أن تراها فقط. إذ لا خير في حقيقة لا يُعمل بها. أتراني إذا قلت لك حقيقة ما سألت عنه كنتَ ستعمل بها؟ بل يمكنك أن تعمل بها فقط إذا استخرجتها استخراجا مما لا يُعقل بعد أن يستوقفك. واعلم أجارك الله أني لا أفعل ذلك سوى لأنك سألتني النصيحة، ولا غرض لي سوى صلاح الملك ومن قبله صلاح نفسي وصلاح الرعية، فصلاح الملك هو صلاح الرعية. أطرق الحاكم قليلا وقال: من لا يجرؤ على قول الحقيقة لا يجدر الوثوق به، ومن يحتال يمزج الحق بالباطل، والصلاح بالطلاح. فالحيلة والكذب سيّان. وقديما قالت الحكماء إن على الملك أن يحذر حاشيته، ولا يطمئن إلا لمن يصدقه، أما من يحتال فعليه أن ينكره. هذا فراق بيني وبينك. ثم نادى على السيّاف وأمر أن يقتل الحكيم، وأن تلقى جثته لأسود القصر.

٢٠٣٥ -‬ غزّة

همست أمي بأن هناك امرأة تسير في الشارع. نهضتُ بسرعة ووقفت بجوارها نتطلع من النافذة ونحن نكتم أنفاسنا. كانت المرأة تسير بهدوء، وتنقل خطواتها بثقة. حاولنا سدى التعرف على وجهها. وظننت أني ألمح طيف ابتسامة على وجهها. ثم كادت قلوبنا أن تتوقف ونحن نراها تنتقل إلى الضفة المقابلة من الشارع. أصخنا السمع، لكن لم يحدث شيء. بعدها اختفت من مجال رؤيتنا. أملنا رؤوسنا لكي نوسع مجال رؤيتنا، لكن المرأة كانت قد اختفت. بقينا مسمرين بعض الوقت ننظر إلى الشارع الخالي في هذا الوقت المبكر، وأخيرا اتجهت أمي إلى المطبخ وهي تقول بصوت خفيض إن عليّ أن انتبه إلى الوقت حتى لا نتأخر. وأنا عدت إلى السرير بجوار ابنتي النائمة، ثم استأنفتُ عملي. كنت قد وصلت إلى الصعوبة الثالثة في المقال، وكنت أتمنى أن أفرغ من ترجمته اليوم، حتى لا تتأخر مستحقاتي. دارت هذه الصعوبة حول فن استخدام الحقيقة كسلاح. ووصلت فيها إلى الفقرة التي ينتقد فيها الكاتب الحقائق التي لا تستتبعها نتائج، ويضرب مثلا عليها بمن يقول إن البربرية اجتاحت بعض البلدان بقوة الطبيعة، كأنها هبطت من السماء. ويُكمل الكاتب:

“إن مثل من يناهض الفاشية دون أن يعادي الرأسمالية، ومن يتشكّى من البربرية وما يأتي من وراءها، مثله كمثل من يريد أن يؤمّن حصته من العجل ولكن من دون أن يذبحه. هؤلاء يريدون أكل العجل، ولكنهم لا يريدون رؤية الدم. ويمكن إرضاؤهم بأن يغسل الجزار يديه قبل أن يقدم لهم اللحم. إنهم ليسوا ضد علاقات الملكية التي تُنتج البربرية، إنهم ضد البربرية فقط. يرفعون أصواتهم ضد البربرية، وهم يفعلون هذا في بلدان تسود فيها علاقات ملكية مشابهة، لكن الجزارين هناك ما زالوا يغسلون أيديهم قبل تقديم اللحم”.

منذ أسبوع أقضي أيامي في ترجمة مقال كتبه برتولد بريخت عام ١٩٣٥، عنوانه “خمس صعوبات لدى كتابة الحقيقة”. وبالرغم من أني لم يسبق لي الذهاب إلى ألمانيا، أو إلى أي مكان آخر، إلا أني أعرف الكثير عنها وعن تاريخها عن طريق الانترنت. فقد تعلمت اللغة هنا مثل زملائي من خلال مناهج رقمية، ودروس على موقع اليوتيوب، وضعتها الشركة على موقعها بحيث يمكننا تنزيلها بسهولة. كل شيء هنا نحصل عليه من شبكة الانترنت. وما أن نتقن اللغة حتى نبدأ في ترجمة المواد التي تُطلب منا، ويغلب عليها الطابع الثقافي، لأن الشركة الخليجية التي نعمل فيها متخصصة في هذا القطاع. نقدم ترجمات سريعة وجيدة بأجور زهيدة، لكنها تكفي احتياجاتنا. كنا نعرف كل شيء عن تاريخ بلاد اللغات التي نترجم عنها، نعرف كل ما يقال فيها، ونعرف ترجمته الأنسب. لكننا لا نكاد نعرف كيف نقول شيئا في هذه اللغات. فهي تبقى في رؤوسنا مقتصرة على استقبال مضمونها، كأنها لغات افتراضية، لم يعد هناك أحياء يتحدثونها، وإنما هناك فقط شفرات نقوم بفكها. مثلها مثل العالم الخارجي، الذي نعرف أنه موجود، لكننا لا نعرف كيف يمكن ممارسة العيش فيه، فنظن أنه أضحى أيضا افتراضيا، لا يسكنه أحياء، بل صورهم المتحركة.

المقال الذي أترجمه هو جزء من ملف عن عودة البربرية يجهزه موقع ثقافي تابع للشركة التي نعمل فيها. وهو ملف تقليدي يتكرر كل عام منذ بداية ما بات يعرف بعصر “عودة البربرية”. المقال كُتب وقت الحكم النازي لألمانيا، وكان بريخت وقتها في منفاه الدنماركي. ويتحدث المقال عن الصعوبات التي سيواجهها من يرغب في قول الحقيقة حول بربرية هذا النظام، ويقدم نصائح لكي تصل الحقيقة إلى الناس. ما أثار انتباهي في المقال منذ البداية هو إيمان الكاتب الراسخ بأن هناك حقيقة، وأن الصعوبة تكمن في قولها إلى الناس فحسب. وأرجعت ذلك إلى أن المقال يأتي من قرن مضى، فلعل في ذلك الزمن البعيد كانت لا تزال هناك حقيقة، لكنها كانت تبحث عن سبل إخراجها من الظلام إلى النور. وذات ليلة وأنا جالس مع زملائي في بيت أحدنا بعد العمل، نتحدث كالعادة عن ما نترجم، تساءلت عن ماذا كان بريخت سيكتب في عصرنا هذا الذي لا توجد فيه هذه الصعوبات في قول الحقيقة. ماذا كان سيكتب في وقت لا يحتاج فيه أحد إلى معرفة الحقيقة، فالجميع يعرفها بالفعل، لكن لم يعد أحد يحتاجها. كأنها زائدة دودية فقدت وظيفتها. فكل شيء بات واضحا كالشمس، كل شيء عار كعظام بيضاء.

راقبت ابنتي النائمة بجواري. كانت عيناها تتحركان بسرعة. وضعت ظهر يدي في راحتها، ثم أزحت اللابتوب جانبا، وانزلقت إلى جوارها. احتضنتها بقوة، وظللت أصغي إلى صوت تنفسها الهادئ. عيناي خاليتان، تنظران نحو الضوء البارد المتسرب من النافذة إلى الغرفة. وبدأت أشعر بالطمأنينة تتسلل إليّ ببطء. لكني تذكرت فجأة أن الدور سيحل عليّ بعد أسبوعين لاستضافة الفصل الدراسي، فنهضت كالملسوع، وفتحت اللابتوب مرة أخرى. أحصيت عدد الأطفال الذين سيأتون طوال الأسبوع القادم، وأخذت في حساب المخصصات الغذائية الإضافية اللازمة للخبز والطبخ. لم تعد توجد اليوم مدارس بعدما تعذر المشي في الشوارع. لذلك أصبح الأهالي يجمعون أبناءهم في بيت أحدهم كل أسبوع، على أن يتولى أصحاب هذا البيت مهمة تعليم الأبناء وتربيتهم خلال ذلك الأسبوع، بما يتضمنه ذلك من تقديم الطعام لهم. وبذلك تتوزع المهمة على عاتق الجميع. وبعد أن قمت بحساباتي زرت حسابي الافتراضي لمعرفة رصيدي من العملات الالكترونية التي أستطيع أن أطلب به الأغراض اللازمة. كان عليّ أن أطلب المخصصات فورا حتى تلحق بطلبية هذا الشهر، وإلا تأجلت للشهر الذي يليه. فالحدود البرية تُفتح يوما واحدا فقط وهو منتصف كل شهر، وتدخل شاحنات محملة بالغذاء والماء. ثم توزع علينا وفقا للمخصصات المطلوبة عبر موقع إدارة القطاع.

نهضت وتمشيت قليلا في الغرفة لفرد عضلاتي المتيبسة، ثم توقفت أتطلع من النافذة الوحيدة. كانت الحياة تدب في البيوت، ويتناهى إلى أذني صخب الصغار وضجيج المطابخ، أما الشوارع فكانت خالية كالعادة. مرق شبح بسرعة في طريقه من مكان لآخر، لمحت بالكاد لون قميصه الأبيض. البعض كان يضطر اضطرارا إلى ذلك لسرعة الانتقال، أما في الأحوال العادية فكان الناس يفضلون التحرك عبر ممرات الأقبية الآمنة، رغم طولها وظلامها الدامس. انتظرت سدى أن أرى المرأة التي عبرت الشارع في الصباح الباكر، ثم عدت إلى السرير. وما أن تمددت فوقه، وأخذت اللابتوب على حجري حتى استيقظت ابنتي. فتحت عينيها وأدارتهما حولها حتى رأتني، عندها انتفضت من نومتها وسألتني عن الوقت، وقبل أن تعرف قالت: لماذا تركتني نائمة؟ هل تأخرنا؟ أخذتها سريعا في حضني وطمئنتها قائلا إن الوقت ما يزال مبكرا. كانت عيناها محمرتين أثر النوم، وقامت مسرعة إلى أمي في المطبخ لتتأكد أننا لم نتأخر. ثم عادت كالبرق إلى الغرفة لكي ترتدي الملابس التي جهزتها بالأمس. أدركت أنني لن أستطيع إكمال العمل. فتوقفت عند الصعوبة الخامسة من المقال، التي كانت تتحدث عن استخدام الحيلة لنشر الحقيقة وتمريرها من دون اكتشافها من أعدائها، خاصة في الأزمان التي تضطهد فيه الحقيقة وتُزيف. وأغلقت اللابتوب وذهبت إلى المطبخ لمساعدة أمي.

اليوم هو آخر جمعة في الشهر، يوم الذهاب إلى الشاطئ الذي ينتظره الجميع. إنه أيضا يوم الموائد العامرة، إذ تتفنن كل أسرة في تجهيز ما لذ وطاب. أمي مثلا بدأت في تجهيز الطعام منذ ليلة الأمس. وما أن يقترب النهار من انتصافه حتى تعبق الشوارع بالروائح الشهية. حملت صندوق الطعام، وسرت بجوار ابنتي التي حملت السجادة التي سنجلس عليها، تلينا أمي وهي تسير وئيدة على عكازها. فقط في هذا اليوم يمكننا السير في الشوارع باطمئنان، نمسك بأيادي بعضنا البعض. من كل شارع تخرج حشود جديدة من الناس، ويكملون المسير صوب الشاطئ. حتى نصل إلى الحائط العالي الذي بنوه أمام البحر. كان حائطا من الزجاج، نستطيع رؤية البحر عبره، لكنا لا نستطيع استنشاق رائحته، أو وضع أقدامنا في مياهه. فقط في آخر جمعة من كل شهر يفتحون بوابة الحائط بعد انتصاف النهار، فتتدفق الجموع نحو رمال الشاطئ ليقضوا اليوم هناك.

وما أن تميل الشمس نحو العصاري، حتى يأخذ الشباب في المرور بين الأسر الجالسة فوق الرمال الناعمة، ويجمعون الطعام. كل أسرة تكون قد أعدت صندوقا كرتونيا ووضعت داخله جزءا من طعامها الذي أعدته. يسير الشباب وهم يجرون عربة عليها كل الصناديق، ووراءهم الأطفال. ثم يشقون طريقهم رويدا رويدا نحو البحر، حملة الكراتين أولا، يليهم حملة الألواح الخشبية. يخوضون في الماء حتى إذا بلغ صدورهم، توقفوا، وجهزوا الألواح الخشبية ثم ربطوها معا، وأخرجوا الطعام من الصناديق، وصفوه فوق الألواح، وبقوا في مكانهم ساكنين. أما الأطفال فيقفون على الشاطئ وهم يحبسون أنفاسهم. يظل الجميع في سكون حتى يظهروا من بعيد. يتقافزون وزبد الماء يحيط بهم. فيدفع الشباب الألواح الخشبية المحملة بالطعام في اتجاههم، ويخرجون من المياه. عندما يقتربون تهز الموجات المصاحبة لهم الألواحَ فيتساقط الطعام في الماء، ويبدؤون في التقاطه. بعض الأطفال كان التأثر يجعلهم يقفزون في أماكنهم وهم يشيرون نحو البحر، أو ينطلقون نحو المياه، لكن الأهالي كانوا يسرعون في إعادتهم. ويظل الجميع واقفين على الشاطئ يشاهدون سرب الدلافين يتقافز حول الطعام ملتهما إياه. وعند المغيب تقترب الدلافين أكثر فأكثر من الشاطئ بعد أن يكونوا قد ابتلعوا الطعام كله، وتقل المسافة بيننا وبينها بحيث نستطيع رؤية جلدها الداكن، وأفواهها العريضة. ثم يطلق السرب موجات من صيحات آسرة مختلفة الترددات، بعضها شقشقات قصيرة، وبعضها زفرات طويلة. وقفت حاملا ابنتي، وفي يدي أمي، نسمع مع الباقين جوقة الدلافين المؤثرة. كانت قلوبنا تنخطف بها كل مرة، تُأخذ إلى البحر، تُغسّل وتُنقى، ثم تُعاد إلى أماكنها. وقفنا جميعا ننصت لما جئنا له، ثم خرجت منا زفرة جماعية، سمعتها الدلافين وتقافزت تحية لها، ناشرةً الزبد في كل مكان حولها. بعدها نعود تدريجيا إلى بيوتنا، وتغلق البوابة، ولا تفتح إلا بعد شهر.

Published September 8, 2020
© Haytham El-Wardany 2020

True Fables

Written in Arabic by Haytham el-Wardany


Translated into English by Nariman Youssef

Dessau, 2019

The story goes that one day a cigarette lighter spoke. “I am the fire, and you are the murderers,” it said. But nobody listened. The first time it happened was when a police officer had picked up the lighter to inspect it. It was an ordinary red lighter, still half-full. The police officer was about to place it in the plastic evidence bag when it said what it had to say. He froze and waited for another sound but none came. He quickly put the lighter in the bag and sealed it shut.

It lay forgotten in the back of a cupboard at the police station, only brought out for the court hearings which went on for many years. At every hearing, the judge would request to inspect the evidence, the police officer would come forward with the evidence bag, open it and place the lighter on the bench before her. The judge would ask the standard question about the circumstances of the exhibit’s recovery, and the police officer would repeat the standard response: He opened the cell, the refugee was gone and all that was left in his place was this lighter. The judge would ask how he could explain the presence of the lighter when it was confiscated on the previous night. The police officer would say that he didn’t know.

The judge would leaf through the documents before her and say, “Could the refugee you had detained on the night before, the evening of the seventh of January, have metamorphosed into a lighter.” The police officer, smiling, would reply, “People don’t just metamorphose into lighters, Your Honour.” She would ask, “Where could he have gone then?” And the police officer would shrug and say that perhaps he had evaporated. The judge would look at the red lighter on the desk before her and hear it say, “I am the fire, and you are the murderers.” The judge would then look from the lighter to the police officer in astonishment and ask, “Has the lighter just said something?” The police officer would answer, “Cigarette lighters don’t speak, Your Honour.” To which the judge would nod, “Yes, of course” before asking him to take the exhibits and leave.

This scene was repeated at every hearing until the very last one, when the judge asked the chief of police to explain the mystery of the refugee vanishing into thin air. He had no explanation but he believed his men, he assured her. The judge questioned him about the fire alarm that had gone off on the night the refugee was detained, and why it was later omitted from the case file. The chief of police replied that the reason for the fire alarm was the tree in the police station courtyard bursting into flames on the same night. He gestured towards the window, where the judge could see the burning tree from where she sat, and said, “You are surely familiar with the tree situation, Your Honour. The fire detectors must have picked up the smoke from the burning tree because of its proximity. When we realised that the source of the fire was not related to the case, we took it out of the report.”

For the thousandth time, the judge asked to see the evidence, and the police officer stepped forward with the sealed evidence bag, opened it and brought out the lighter. This time, the judge put on a pair of latex gloves, held the lighter in her palm and looked at it. The lighter’s voice, when it came, was very weak. “I am the fire, and you are the murderers.” As usual, the judge looked to the police officer, who nodded reassuringly. For the thousandth time, she asked him, “How did the lighter get into the cell if it had been confiscated on the previous night?” And for the thousandth time, the police officer replied, “I don’t know.”

The judge kept looking at the lighter, waiting for it to make another sound, but the lighter’s slanted metal face, its red body huddled on itself, remained mute in the judge’s palm. The judge looked to the chief of police, looked out of the window towards the burning tree, back at the lighter, then struck her gavel down and pronounced her verdict: The court considered the refugee missing until found, and the case was thereby closed.

On the same day that the judge pronounced her final verdict, a group of workers arrived at the police station courtyard to cut down the tree, the final solution to that problem. Since the tree had first caught fire fourteen years ago, no one had been able to extinguish it. Every time the fire brigade came and aimed powerful hoses at the tree, the flames died down. But every time, they flared back up the next day. The perpetual burning of the oldest tree in town remained a mystery.

A research team that was assigned to investigate the phenomenon produced a number of hypotheses, for instance that the carbon-rich soil was making the tree flammable. But the flames raged on even after they replaced the soil. When the team proposed moving the tree with its soil to another location, the city council refused on the basis its historical value. The tree had been planted in this spot at the end of the Thirty Years’ War.

Months passed and every night a thin line of smoke extended from the burning tree over the roofs of all the houses in the town. Until the research team proposed a compromise: pruning the tree to get rid of the branches where the fire persisted. They assured everyone the tree would grow new branches, so the city council agreed. But then the very next day, people gathered and were shocked to see the heart of the tree trunk itself ablaze, a terrifying red glow flashing across the charred bark.

On the day that the tree was being removed from the police station courtyard, a boy and his mother stood by to watch. The boy asked his mother what was going on. “They are uprooting the tree, my son,” she answered him, her eyes fixed on the scene. “Do you know what this means?” The boy shook his head, so she continued, “It’s the oldest tree in town. Almost four hundred years old.”

The townspeople watched in silence as the workers dug the earth around the trunk, then as the big orange bulldozer, finally approved by the city council, arrived and dug its sharp teeth into the hole the workers had created and began to tear at the roots of the tree. A scent of deep earth filled the air. Then the bulldozer moved forward and struck the tree trunk. At first the tree didn’t budge. So the bulldozer reversed then hurtled forward and, with all its might, struck the trunk again. The tree shook this time and, for a few moments, nothing more happened. Then it came crashing down with an overwhelming noise that merged with the onlookers’ shrieks. Once it had collapsed, the workers set to work. They cooled the wood of the tree before attacking it with their saws. The bulldozer carried the charred corpse away. Finally, the workers filled the cavities where the roots used to be with soil and unrolled the ready-made piece of lawn on top of it all.

That night a heavy shadow descended over the town. No one could sleep much. In the morning, the townspeople woke up to a feeling of confusion and disorder. There were screams in the street, some people started running. Terrified, everyone headed for the police station and, when they arrived at the courtyard, they froze. A small stone had broken the ground open, at the same spot where the burning tree used to stand. The stone was no bigger than a medium-sized pumpkin, but out of it flowed streams of burning lava, some pouring towards the fence of the courtyard, some pooling around the stone and forming a small lake of blazing fluid. If it weren’t for the recognisable colours of lava, and the heat it emitted, people would not have believed that what they were watching was indeed a tiny volcano and not another art installation.

Basra, 759

“One day, Donkey was trudging along under the weight of the bundle he carried, when he came upon Rat.

‘My friend,’ said Rat, ‘I see you have weakened and lost much weight.’

‘The load is heavy today,’ said Donkey. ‘I feel my back is about to break.’

Rat scampered up Donkey’s back and tore at the rope that secured the bundle in place, until the entire load of wood tumbled to the ground, and Donkey was relieved of its weight.

‘My friend,’ said Rat, ‘why don’t you follow my advice? You’d find some relief and regain some of your health?’

‘I’d be scared of losing the way.’

‘Where does that fear reside?’

‘In the heart.’

‘Then leave your heart behind and bring the fear to an end.’

Donkey was confused. ‘What do you mean leave my heart?’ he objected. ‘Weren’t you just the other day cautioning me against allowing my heart to die?’

‘This heart I advise you to leave behind, my friend, isn’t but the one that’s already dead,’ said Rat. ‘Get rid of it to make way for a new one pulsing with life!’

‘What nonsense do you speak, friend?’ Donkey snapped. ‘I have but one heart, the one in my chest. I have neither your sharp teeth nor quick wit. And I have a much bigger body to feed. If I don’t work hard to earn my fill, I’ll starve.’

‘You’ll find your heart when you find the courage to throw it away. If you never lose it, you’ll never find it.’

At this very instant, the woodcutter appeared from behind one of the trees. ‘What are you doing, you wretched donkey?’ he immediately started screaming. ‘You’re letting a full load of wood go to waste!’

Rat was small enough to go unnoticed. The woodcutter launched at Donkey and began to beat him … …”

The king motioned with his hand for the wise man to stop. “I asked you a question about a man who attains his wish then loses it,” he said, “and you told me what happened between the monkey and the turtle. Then I asked about a man who mistakes his fear of the truth for the truth, and here you are talking about rats and donkeys. What exactly are you getting at?”

“The truth, My Lord,” replied the wise man, “often reaches us from the mouths of animals and birds.”

“How so when they are mute and have neither language nor reason?” asked the king.

“You should know, Allah exalt you,” the wise man began, “that a thing is known not by itself but by its likeness. A fable resembles the thing but is not the thing itself. It is in such difference and such likeness that the truth may be encountered. And you should know, Allah’s mercy grace you, that the encounter with the truth is always a swift, unexpected one and that it may be brought about by the weakest, least significant creature. You may go out to seek the truth but it cannot be found, it can only come to you. There you would be listening to me with a lightness of heart, believing what I tell you to be nothing but play, when you begin to see the connections between your question and the story, and become attuned to what you might have missed, having never expected to receive it from animals. You should know, Allah grant you glory, that when non-sapient beings speak, it is not to be taken lightly, for it means that their suffering has overflown into words, so when it happens, sapient beings should pause and listen to what they have not heard before, for it may guide them to the righteous path.”

It was late in the evening and the divan had quietened down. For a while, the king seemed lost in thought. “All this seems to me nothing but your fear of telling me the truth as it is,” he finally said. “You bury it within a playful story so that I deduce it myself and do not hold you accountable if I am distressed by what I find.”

“Fear of kings is a form of wisdom, My Lord,” said the wise man. “However long I have served you, to you I am no more than an old man with a foreign accent. My lowly position compared to your high standing, your far-reaching authority, is like that of the animals compared to humans. Like them, my only power lies in trickery. But I trick you not to deceive you, only to let you see the truth. The truth is no mystery. It faces us clear as sunlight, and yet we avert our eyes. In order to be seen, it has to take us unawares. If you would allow me, I shall explain why. It is because no good comes from a truth that is not honoured by action. Would you have honoured the truth I speak in direct answer to your question? No, but you would honour the truth you glean out of a story that holds your attention. You should know, Allah reward you, that I only do this because you have sought my advice. My only purpose is righteous governance.”

For a few moments, the king was quiet. “He who does not dare to speak the truth cannot be trusted,” he then said. “Trickery fuses truth with fraud, and right with wrong. Trickery and lies are one and the same. Wise men of old said that a king should be wary of his servants and only trust those who speak the truth to him. Those who trick him should be banished. This is where your way and mine shall part.”

With that, the king called his executioner and ordered the wise man killed and his body thrown to the palace lions.

Gaza, 2035

There’s a woman walking down the street, my mother tells me in a whisper. I jump up and join her by the window. We hold our breaths as we watch. The woman walks unhurriedly, one assured step following the other. We try to make out her face. I think I might just have glimpsed the ghost of a smile. Our hearts nearly stop as she begins to cross the street. We prick up our ears. Nothing. She walks on and out of our field of vision. We stretch our necks and tilt our heads, but there’s nothing more to see. Yet for a while we are frozen to our spots, just staring out at the empty street in the early morning. Eventually my mother heads to the kitchen, murmuring that I should watch the time if we don’t want to be late.

I go back to bed, sit down next to my sleeping daughter and resume my work. I have reached the third difficulty in the article and am hoping to finish the translation today so that my payment isn’t delayed. The third difficulty revolves around the art of using truth as a weapon. I reach the paragraph where the author criticises the kind of truth that is not honoured by action, for example the idea that barbarism has descended on certain countries like a natural phenomenon. He writes:

“Those who are against fascism without being against capitalism, those who bewail a barbarism that arises out of barbarism, are like those who want to eat the veal without slaughtering the calf. They are willing to eat the animal, but object to the sight of blood. They can be placated if the butcher washes his hands before weighing their meat. They are not against the property relations that produce barbarism, only against barbarism itself. They raise their voices against it, and they do so in countries that are ruled by the same property relations, but where butchers still wash their hands before weighing the meat.”

For a week now I’ve been spending my days translating an article written by Bertolt Brecht in 1935, titled “Five Difficulties When Writing the Truth”. Although I have never been to Germany, or anywhere else for that matter, I have learned a lot about that country and its history from the Internet. Like all my colleagues here, I have learned the language from online courses and YouTube videos which the company shares on its website for us to download. Everything we get here, we get from the Internet. Once we master a language, we begin to take translation assignments, of mostly cultural content which is the speciality of the Gulf-based company we work for. We offer quick and adequate translations for low fees, enough for us to live on.

But even when we know all there is to know about the countries where the languages we translate are spoken, their histories and all that’s ever been said and the best translation for it, we rarely have an idea how to actually say anything in any of those languages. They are just languages we receive information in, virtual languages, no longer spoken by any living persons, just codes for us to crack. This isn’t different to how we perceive of the outside world as a whole: We know it’s there but we have no idea how to live within it, so we accept it as a kind of virtual reality, inhabited not by real people but by their images animated on a screen.

The article I’m translating is part of a feature on the return of barbarism, curated by a cultural website affiliated with the company we work for, a recurring annual theme since the beginning of the era that has come to be known as The Return of Barbarism. The article was originally written during the Nazi rule of Germany, while Brecht was in his Danish exile, and discusses the difficulties faced by someone who wants to speak truth to power, offering advice on how to ensure that the truth reaches the people. What has caught my attention right from the start is the author’s firm belief that there is a truth, the difficulty lying merely in conveying it to others. I thought this might be explained by the fact that the article dates to a past century, when the challenge faced by the truth was to find a way out of obscurity into the light.

Then one evening, at a gathering at a colleague’s house after work, chatting as we usually do about the different translations we were working on, it occurred to me to wonder what Brecht would have written in this day and age, when no difficulties exist in actually speaking the truth. What would he have written at a time when no one needs to hear the truth because everyone already knows it but has no use for it. It has become like the human appendix, a remnant from our evolutionary past that has lost its function. Everything is as clear as sunlight, as bare as white bones.

I watch my sleeping daughter, her pupils moving rapidly under her eyelids. I place the back of my hand in her open palm, put my laptop aside and slide down beside her. I hold her and listen to the calm sound of her breathing. My eyes are blank, taking in the cold light seeping into the room through the window, and I’m starting to feel peace slowly descend.

Then I suddenly remember that in two weeks it’s going be my turn to host the school. I sit up like one stung by a bee and open the laptop again. I calculate how many children will spend that week with us and the extra rations we will need for baking and cooking. There are no schools anymore, given how difficult it is to walk in the streets. Families take turn gathering the children in their homes, the one in charge every week running lessons and, of course, making sure the children are fed. This way everyone shares the responsibility.

Having done the maths, I log into my online account to check my balance before ordering the necessary provisions. I have to submit the request for extra rations immediately if I’m to make it into this month’s order. Otherwise it won’t go through until next month. The overland border opens one day only, at the middle of the month, to let in the trucks carrying food and water. These get distributed according to the rations assigned via the Strip Administration website.

I get up and walk around the room to stretch my stiff muscles, then I stand before the only window. The surrounding houses are coming to life. I can hear the commotion of children and noisy kitchens. The streets though are as empty as ever. Then a ghost of a person flashes past, so fast I barely glimpse a white shirt. Sometimes, in emergencies, people are forced to do this, but under ordinary circumstances, everyone prefers to use the safe underground tunnels, long and dark as they are. I wait in vain to see the woman who crossed the street earlier, then give up and go back to bed. But as soon as I lie down, my daughter opens her eyes and looks around until she sees me. She jumps up and asks what time it is. “Why did you let me sleep? Are we late?” she adds before I manage to answer.

I pull her close to reassure her. It’s still early. Her eyes are red from sleep. She runs to my mother in the kitchen to make sure we really aren’t late. Then she’s back in the room like a thunderbolt, putting on the clothes she prepared last night. There’s no point pretending that I’ll get any more work done now. I abandon the article at the fifth difficulty, which deals with how to use cunning to spread the truth, to slip it under the noses of its enemies during times when it’s being suppressed and distorted. I shut the laptop and go to the kitchen to help my mother.

Today is the last Friday of the month, beach day, which everyone has been looking forward to. It’s also the day of generous spreads. Every family goes out of its way to prepare the most delicious foods. My mother has been cooking since last night. As midday approaches, the streets are infused with mouth-watering smells. I carry the box of food and walk by my daughter who carries the rug we will sit on. My mother is behind us with her walking stick. This is the only time the streets are safe to walk. Crowds are emerging out of every side street, holding hands, joining the march to the beach. We arrive at the high wall they built along the sea front. It’s a glass wall, so we can see the beach but not smell the sea or dip our feet in the waves. Only on the last Friday of every month, at noon, they open the gates. People flood out to the sandy beach where they will spend the day.

As the sun begins its lazy westward descent, young people walk around the soft sand to collect the boxes each family has prepared and filled with some of the food they’ve brought. The boxes are loaded onto carts that the young people pull along the beach. Soon, with the children trailing after them, they are making their way to the sea and wading into the water, some carrying the boxes followed by others carrying wooden planks. They stop once the water is up to their chests, prepare the wooden planks by tying them together, take the food out of the boxes and arrange it on the make-shift raft. Then they stand perfectly still. The children watch from the shore. We are all holding our breaths. Until they appear in the distance, a pod of porpoising dolphins, sea spray swirling around them.

The kids push their wooden planks towards the dolphins and move back to the shore. The waves caused by the dolphins’ movements as they swim closer topple the food into the water. The children are pointing to the sea, jumping up and down in excitement. Some run to the water before the grownups pull them back. Everyone on the beach is mesmerised, as the dolphins leap and dive to devour the food.

By sunset, having eaten their fill, they move closer, so close we can see their dusky skin underwater. Their calls come at us in waves – short chirrup-like sounds, lingering trills, long sighing whistles. I’m carrying my daughter and holding my mother’s hand, listening along with everyone else to the captivating chorus. It gets us every time. Snatches our hearts and carries them out to sea, then returns them washed and purified to our chests. We take in the sounds we have come for and answer with a collective sigh, which the dolphins acknowledge with flips and twirls in the air that send the spray flying in all directions.

After that, we slowly begin to make our ways home, and the gates are closed, not to be opened again for another month.

Published September 8, 2020
© Haytham El-Wardany 2020
© Nariman Youssef 2020

 


Other
Languages
Arabic
English

Your
Tools
Close Language
Close Language
Add Bookmark